الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه) ذكر فيه حديث ابن عمر " ينصب لكل غادر لواء " وفيه قصة لابن عمر في بيعة يزيد بن معاوية، وحديث أبي برزة في إنكاره على الذين يقاتلون على الملك من أجل الدنيا، وحديث حذيفة في المنافقين، ومطابقة الأخير للترجمة ظاهرة، ومطابقة الأول لها من جهة أن في القول في الغيبة بخلاف ما في الحضور نوع غدر، وسيأتي في كتاب الأحكام ترجمة ما يكره من ثناء السلطان فإذا خرج قال غير ذلك، وذكر فيه قول ابن عمر لمن سأله عن القول عند الأمراء بخلاف ما يقال بعد الخروج عنهم: كنا نعده نفاقا، وقد وقع في بعض طرقه أن الأمير المسئول عنه يزيد بن معاوية كما سيأتي في الأحكام، ومطابقة الثاني من جهة أن الذين عابوا أبو برزة كانوا يظهرون أنهم يقاتلون لأجل القيام بأمر الدين ونصر الحق وكانوا في الباطن إنما يقاتلون لأجل الدنيا. ووقع لابن بطال هنا شيء فيه نظر فقال: وأما قول أبي برزة فوجه موافقته للترجمة أن هذا القول لم يقله أبو برزة عند مروان حين بايعه بل بايع مروان واتبعه ثم سخط ذلك لما بعد عنه، ولعله أراد منه أن يترك ما نوزع فيه طلبا لما عند الله في الآخرة ولا يقاتل عليه كما فعل عثمان يعني من عدم المقاتلة لا من ترك الخلافة فلم يقاتل من نازعه بل ترك ذلك، وكما فعل الحسن بن علي حين ترك قتال معاوية حين نازعه الخلافة، فسخط أبو برزة على مروان تمسكه بالخلافة والقتال عليها فقال لأبي المنهال وابنه بخلاف ما قال لمروان حين بايع له. قلت: ودعواه أن أبا برزة بايع مروان ليس بصحيح، فإن أبا برزة كان مقيما بالبصرة ومروان إنما طلب الخلافة بالشام، وذلك أن يزيد بن معاوية لما مات دعا ابن الزبير إلى نفسه وبايعوه بالخلافة فأطاعه أهل الحرمين ومصر والعراق وما وراءها، وبايع له الضحاك بن قيس الفهري بالشام كلها إلا الأردن ومن بها من بني أمية ومن كان على هواهم، حتى هم مروان أن يرحل إلى ابن الزبير ويبايعه فمنعوه وبايعوا له بالخلافة، وحارب الضحاك بن قيس فهزمه وغلب على الشام، ثم توجه إلى مصر فغلب عليها، ثم مات في سنته فبايعوا بعده ابنه عبد الملك وقد أخرج ذلك الطبري واضحا. وأخرج الطبراني بعضه من رواية عروة بن الزبير وفيه أن معاوية بن يزيد بن معاوية لما مات دعا مروان لنفسه فأجابه أهل فلسطين وأهل حمص فقاتله الضحاك بن قيس بمرج راهط فقتل الضحاك ثم مات مروان وقام عبد الملك، فذكر قصة الحجاج في قتاله عبد الله بن الزبير وقتله ثم قال ابن بطال: وأما يمينه يعني أبا برزة على الذي بمكة يعني ابن الزبير فإنه لما وثب بمكة بعد أن دخل فيما دخل فيه المسلمون جعل أبو برزة ذلك نكثا منه وحرصا على الدنيا وهو أي أبو برزة في هذه - أي قصة ابن الزبير - أقوى رأيا منه في الأولى أي قصة مروان قال: وكذلك القراء بالبصرة: لأن أبا برزة كان لا يرى قتال المسلمين أصلا، فكان يرى لصاحب الحق أن يترك حقه لمن نازعه فيه ليؤجر على ذلك ويمدح بالإيثار على نفسه لئلا يكون سببا لسفك الدماء انتهى ملخصا ومقتضى كلامه أن مروان لما ولى الخلافة بايعه الناس أجمعون، ثم نكث ابن الزبير بيعته ودعا إلى نفسه، وأنكر عليه أبو برزة قتاله على الخلافة بعد أن دخل في طاعته وبايعه، وليس كذلك والذي ذكرته هو الذي توارد عليه أهل الأخبار بالأسانيد الجيدة، وابن الزبير لم يبايع لمروان قط بل مروان هم أن يبايع لابن الزبير ثم ترك ذلك ودعا إلى نفسه. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الشرح: قوله (لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية) في رواية أبي العباس السراج في تاريخ عن أحمد بن منيع وزياد بن أيوب عن عفان عن صخر بن جويرية عن نافع " لما انتزى أهل المدينة مع عبد الله بن الزبير وخلعوا يزيد بن معاوية جمع عبد الله بن عمر بنيه " ووقع عند الإسماعيلي من طريق مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد في أوله من الزيادة عن نافع " أن معاوية أراد ابن عمر على أن يبايع ليزيد فأبى وقال لا أبايع لأميرين، فأرسل إليه معاوية بمائة ألف درهم فأخذها، فدس إليه رجلا فقال له ما يمنعك أن تبايع؟ فقال: إن ذاك لذاك - يعني عطاء ذلك المال لأجل وقوع المبايعة - إن ديني عندي إذا لرخيص، فلما مات معاوية كتب ابن عمر إلى يزيد ببيعته، فلما خلع أهل المدينة " فذكره. قلت: وكان السبب فيه ما ذكره الطبري مسندا أن يزيد ابن معاوية كان أمر على المدينة ابن عمه عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فأوفد إلى يزيد جماعة من أهل المدينة منهم عبد الله بن غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص المخزومي في آخرين فأكرمهم وأجازهم، فرجعوا فأظهروا عيبه ونسبوه إلى شرب الخمر وغير ذلك، ثم وثبوا على عثمان فأخرجوه، وخلعوا يزيد ابن معاوية، فبلغ ذلك يزيد فجهز إليهم جيشا مع مسلم بن عقبة المري وأمره أن يدعوهم ثلاثا فإن رجعوا وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت فأبحها للجيش ثلاثا ثم أكفف عنهم. فتوجه إليهم فوصل في ذي الحجة سنة ثلاثين فحاربوه، وكان الأمير على الأنصار عبد الله بن حنظلة وعلى قريش عبد الله بن مطيع وعلى غيرهم من القبائل معقل بن يسار الأشجعي، وكانوا اتخذوا خندقا، فلما وقعت الوقعة انهزم أهل المدينة، فقتل ابن حنظلة، وفر ابن مطيع، وأباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثا، فقتل جماعة صبرا، منهم معقل بن سنان ومحمد بن أبي الجهم ابن حذيفة ويزيد بن عبد الله بن زمعة وبايع الباقين على أنهم خول ليزيد. وأخرج أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له " إن لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته " فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرض الناس على يزيد وعابه ودعاهم إلى خلع يزيد، فأجابوه. فبلغ يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير، وذلك أن بني حارثة أدخلوا قوما من الشاميين من جانب الخندق، فترك أهل المدينة القتال ودخلوا المدينة خوفا على أهلهم، فكانت الهزيمة، وقتل من قتل وبايع مسلم الناس على أنهم خول ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء. وأخرج الطبراني من طريق محمد بن سعيد بن رمانة أن معاوية لما حضره الموت قال ليزيد قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناس ولست أخاف عليك إلا أهل الحجاز، فإن رابك منهم ريب فوجه إليهم مسلم بن عقبة فإني قد جربته وعرفت نصيحته، قال فلما كان من خلافهم عليه ما كان دعاه فوجهه فأباحها ثلاثا. ثم دعاهم إلى بيعة يزيد وأنهم أعبد له قن في طاعة الله ومعصيته. ومن رواية عروة بن الزبير قال: لما مات معاوية أظهر عبد الله بن الزبير الخلاف على يزيد بن معاوية، فوجه يزيد مسلم ابن عقبة في جيش أهل الشام وأمره أن يبدأ بقتال أهل المدينة ثم يسير إلى ابن الزبير بمكة، قال فدخل مسلم ابن عقبة المدينة وبها بقايا من الصحابة فأسرف في القتل، ثم سار إلى مكة فمات في بعض الطريق. وأخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند صحيح عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنه قال يعقوب: وكانت وقعة الحرة في ذي القعدة سنة ثلاث وستين. قوله (حشمه) بفتح المهملة ثم المعجمة، قال ابن التين: الحشمة العصبة والمراد هنا خدمه ومن يغضب له. وفي رواية صخر بن جويرية عن نافع عند أحمد " لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ثم قال: أما بعد". قوله (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة) زاد في رواية مؤمل " بقدر غدرته " وزاد في رواية صخر " فقال هذه غدرة فلان " أي علامة غدرته؛ والمراد بذلك شهرته وأن يفتضح بذلك على رءوس الأشهاد، وفيه تعظيم الغدر سواء كان من قبل الآمر أو المأمور وهذا القدر هو المرفوع من هذه القصة وقد تقدم معناه في " باب إثم الغادر للبر والفاجر " في أواخر كتاب الجزية والموادعة قبيل بدء الخلق. قوله (على بيع الله ورسوله) أي على شرط ما أمر الله ورسوله به من بيعة الإمام، وذلك أن من بايع أميرا فقد أعطاه الطاعة وأخذ منه العطية فكان شبيه من باع سلعة وأخذ ثمنها، وقيل إن أصله أن العرب كانت إذا تبايعت تصافقت بالأكف عند العقد، وكذا كانوا يفعلون إذا تحالفوا، فسمو معاهدة الولاة والتماسك فيه بالأيدي بيعة. ووقع في رواية مؤمل وصخر " على بيعة الله " وقد أخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه " من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر". قوله (ولا غدر أعظم) في رواية صخر بن جويرية عن نافع المذكور " وإن من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ثم ينكث بيعته". قوله (ثم ينصب له القتال) بفتح أوله. وفي رواية مؤمل " نصب له يقاتله". قوله (خلعه) في رواية مؤمل " خلع يزيد " وزاد " أو خف في هذا الأمر " وفي رواية صخر ابن جويرية " فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسعى في هذا الأمر". قوله (ولا تابع في هذا الأمر) كذا للأكثر بمثناة فوقانية ثم موحدة، وللكشميهني بموحدة ثم تحتانية. قوله (إلا كانت الفيصل بيني وبينه) أي القاطعة وهي فيعل من فصل الشيء إذا قطعه. وفي رواية مؤمل " فيكون الفيصل فيما بيني وبينه " وفي رواية صخر بن جويرية " فيكون صيلما بيني وبينه " والصيلم بمهملة مفتوحة وياء آخر الحروف ثم لام مفتوحة القطيعة. وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه وأنه لا ينخلع بالفسق، وقد وقع في نسخة شعيب ابن أبي حمزة عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصة الرجل الذي سأله عن قول الله تعالى الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَنْ عَوْفٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ لَمَّا كَانَ ابْنُ زِيَادٍ وَمَرْوَانُ بِالشَّأْمِ وَوَثَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ وَوَثَبَ الْقُرَّاءُ بِالْبَصْرَةِ فَانْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ عُلِّيَّةٍ لَهُ مِنْ قَصَبٍ فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَأَنْشَأَ أَبِي يَسْتَطْعِمُهُ الْحَدِيثَ فَقَالَ يَا أَبَا بَرْزَةَ أَلَا تَرَى مَا وَقَعَ فِيهِ النَّاسُ فَأَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ إِنِّي احْتَسَبْتُ عِنْدَ اللَّهِ أَنِّي أَصْبَحْتُ سَاخِطًا عَلَى أَحْيَاءِ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ كُنْتُمْ عَلَى الْحَالِ الَّذِي عَلِمْتُمْ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالضَّلَالَةِ وَإِنَّ اللَّهَ أَنْقَذَكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ بِكُمْ مَا تَرَوْنَ وَهَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَفْسَدَتْ بَيْنَكُمْ إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بِالشَّأْمِ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى الدُّنْيَا وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُونَ إِلَّا عَلَى الدُّنْيَا وَإِنْ ذَاكَ الَّذِي بِمَكَّةَ وَاللَّهِ إِنْ يُقَاتِلُ إِلَّا عَلَى الدُّنْيَا الشرح: قوله (أبو شهاب) هو عبد ربه بن نافع وعوف هو الأعرابي، والسند كله بصريون إلا ابن يونس، وأبو المنهال هو سيار بن سلامة. قوله (لما كان ابن زياد ومروان بالشام وثب ابن الزبير بمكة ووثب القراء بالبصرة) ظاهره أن وثوب ابن الزبير وقع بعد قيام ابن زياد ومروان بالشام، وليس كذلك، وإنما وقع في الكلام حذف، وتحريره ما وقع عند الإسماعيلي من طريق يزيد بن زريع عن عوف قال " حدثنا أبو المنهال قال: لما كان زمن أخرج ابن زياد يعني من البصرة وثب مروان بالشام ووثب ابن الزبير بمكة ووثب الذين يدعون القراء بالبصرة غم أبي غما شديدا " وكذا أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق عبد الله بن المبارك عن عوف ولفظه " وثب مروان بالشام حيث وثب " والباقي مثله، ويصحح ما وقع في رواية أبي شهاب بأن تزاد واو قبل قوله " وثب ابن الزبير " فإن ابن زياد لما أخرج من البصرة توجه إلى الشام فقام مع مروان، وقد ذكر الطبري بأسانيده ما ملخصه: أن عبيد الله بن زياد كان أميرا بالبصرة ليزيد بن معاوية، وأنه لما بلغته وفاته خطب لأهل البصرة وذكر ما وقع من الاختلاف بالشام، فرضى أهل البصرة أن يستمر أميرا عليهم حتى يجتمع الناس على خليفة فمكث على ذلك قليلا، ثم قام سلمة بن ذؤيب بن عبد الله اليربوعي يدعو إلى ابن الزبير فبايعه جماعة، فبلغ ذلك ابن زياد وأراد منهم كف سلمة عن ذلك فلم يجيبوه، فلما خشي على نفسه القتل استجار بالحارث ابن قيس بن سفيان فأردفه ليلا إلى أن أتى به مسعود بن عمرو بن عدي الأزدي فأجاره، ثم وقع بين أهل البصرة اختلاف فأمروا عليهم عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الملقب ببه بموحدتين الثانية ثقيلة وأمه هند بنت أبي سفيان، ووقعت الحرب وقام مسعود بأمر عبيد الله بن زياد فقتل مسعود وهو على المنبر في شوال سنة أربع وستين، فبلغ ذلك عبيد الله بن زياد فهرب، فتبعوه وانتبهوا ما وجدوا له، وكان مسعود رتب معه مائة نفس يحرسونه فقدموا به الشام قبل أن يبرموا أمرهم فوجدوا مروان قد هم أن يرحل إلى ابن الزبير ليبايعه ويستأمن لبني أمية، فثنى رأيه عن ذلك، وجمع من كان يهوى بني أمية وتوجهوا إلى دمشق وقد بايع الضحاك بن قيس بها لابن الزبير، وكذا النعمان بن بشير بحمص، وكذا ناتل بنون ومثناة ابن قيس بفلسطين، ولم يبق على رأي الأمويين إلا حسان بن بحدل بموحدة ومهملة وزن جعفر وهو خال يزيد ابن معاوية وهو بالأردن فيمن أطاعه، فكانت الوقعة بين مروان ومن معه وبين الضحاك بن قيس بمرج راهط، فقتل الضحاك وتفرق جمعه وبايعوا حينئذ مروان بالخلافة في ذي القعدة منها. وقال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه: حدثنا أبو مسهر عبد الأعلى قال: بويع لمروان بن الحكم، بايع له أهل الأردن وطائفة من أهل دمشق، وسائر الناس زبيريون، ثم اقتتل مروان وشعبة بن الزبير بمرج راهط فغلب مروان وصارت له الشام ومصر، وكانت مدته تسعة أشهر فهلك بدمشق وعهد لعبد الملك. وقال خليفة بن خياط في تاريخه: حدثنا الوليد بن هشام عن أبيه عن جده وأبو اليقظان وغيرهما قالوا: قدم ابن الزياد الشام وقد بايعوا ابن الزبير ما خلا هل الجابية، ثم ساروا إلى مرج راهط فذكر نحوه، وهذا يدفع ما تقدم عن ابن بطال أن ابن الزبير بايع مروان ثم نكث. قوله (ووثب القراء بالبصرة) يريد الخوارج، وكانوا قد ثاروا بالبصرة بعد خروج ابن زياد ورئيسهم نافع بن الأزرق، ثم خرجوا إلى الأهواز، وقد استوفى خبرهم الطبري وغيره، ويقال إنه أراد الذين بايعوا على قتال من قتل الحسين وساروا مع سليمان بن صرد وغيره من البصرة إلى جهة الشام فلقيهم عبيد الله بن زياد في جيش الشام من قبل مروان فقتلوا بعين الوردة، وقد قص قصتهم الطبري وغيره. قوله (فانطلقت مع أبي إلى أبي برزة الأسلمي) في رواية يزيد بن زريع " فقال لي أبي وكان يثنى عليه خيرا انطلق بنا إلى هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي برزة الأسلمي، فانطلقت معه حتى دخلنا عليه " وفي رواية عبد الله بن المبارك عن عوف " فقال أبي انطلق بنا لا أبالك إلى هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي برزة " وعند يعقوب بن سفيان عن سكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي المنهال قال " دخلت مع أبي على أبي برزة الأسلمي، وإن في أذني يومئذ لقرطين وإني لغلام. قوله (في ظل علية له من قصب) زاد في رواية يزيد بن زريع " في يوم حار شديد الحر " والعلية بضم المهملة وبكسرها وكسر اللام وتشديد التحتانية هي الغرفة وجمعها علالي، والأصل عليوة فأبدلت الواو ياء وأدغمت. وفي رواية ابن المبارك " في ظل علولة". قوله (يستطعمه الحديث) في رواية الكشميهني " بالحديث " أي يستفتح الحديث ويطلب منه التحديث. قوله (إني احتسبت عند الله) في رواية الكشميهني " أحتسب " وكذا في رواية يزيد بن زريع ومعناه أنه يطلب بسخطه على الطوائف المذكورين من الله الأجر على ذلك لأن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان. قوله (ساخطا) في رواية سكين " لائما". قوله (إنكم يا معشر العرب) في رواية ابن المبارك " العريب". قوله (كنتم على الحال الذي علمتم) في رواية يزيد بن زريع " على الحال التي كنتم عليها في جاهليتكم " قوله (وإن الله قد أنقذكم بالإسلام وبمحمد عليه الصلاة والسلام) في رواية يزيد بن زريع " وإن الله نعشكم " بفتح النون والمهملة ثم معجمة، وسيأتي في أوائل الاعتصام من رواية معتمر بن سليمان عن عوف أن أبا المنهال حدثه أنه سمع أبا برزة قال " إن الله يغنيكم " قال أبو عبد الله هو البخاري: وقع هنا " يغنيكم " يعني بضم أوله وسكون المعجمة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة قال وإنما هو " نعشكم " ينظر في أصل الاعتصام، كذا وقع عند المستملي، ووقع عند ابن السكن " نعشكم " على الصواب، ومعنى نعشكم رفعكم وزنه ومعناه، وقيل عضدكم وقواكم. قوله (إن ذاك الذي بالشام) زاد يزيد بن زريع " يعني مروان " وفي رواية سكين " عبد الملك ابن مروان " والأول أولى. قوله (وإن هؤلاء الذين بين أظهركم) في رواية يزيد بن زريع وابن المبارك نحوه " إن الذين حولكم الذين تزعمون أنهم قراؤكم " وفي رواية سكين وذكر نافع بن الأزرق وزاد في آخره " فقال أبي: فما تأمرني إذا؟ فإني لا أراك تركت أحدا، قال لا أرى خير الناس اليوم إلا عصابة خماص البطون من أموال الناس خفاف الظهور من دمائهم " وفي رواية سكين " إن أحب الناس إلى لهذه العصابة الخمصة بطونهم من أموال الناس الخفيفة ظهورهم من دمائهم " وهذا يدل على أن أبا برزة كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين ولا سيما إذا كان ذلك في طلب الملك. وفيه استشارة أهل العلم والدين عند نزول الفتن وبذل العالم النصيحة لمن يستشيره، وفيه الاكتفاء في إنكار المنكر بالقول ولو في غيبة من ينكر عليه ليتعظ من يسمعه فيحذر من الوقوع فيه. قوله (وإن ذاك الذي بمكة) زاد يزيد بن زريع " يعني ابن الزبير". الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ الْيَوْمَ شَرٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ يُسِرُّونَ وَالْيَوْمَ يَجْهَرُونَ الشرح: قوله (عن واصل الأحدب) هو ابن حيان بمهملة ثم تحتانية ثقيلة أسدي كوفي يقال له بياع السابري بمهملة وموحدة من طبقة الأعمش ولكنه قديم الموت. قوله (إن المنافقين اليوم شر منهم) في رواية إبراهيم بن الحسين عن آدم شيخ البخاري فيه " إن المنافقين اليوم شر منهم " أخرجه أبو نعيم. قوله (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الكرماني: هو متعلق بمقدر نحو الناس، إذ لا يجوز أن يقال إنه متعلق بالضمير القائم مقام المنافقين لأن الضمير لا يعمل. قال ابن بطال: إنما كانوا شرا ممن قبلهم لأن الماضين كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، وأما الآخرون فصاروا يجهرون بالخروج على الأئمة ويوقعون الشر بين الفرق فيتعدى ضررهم لغيرهم. قال: ومطابقته للترجمة من جهة أن جهرهم بالنفاق وشهر السلاح على الناس هو القول بخلاف ما بذلوه من الطاعة حين بايعوا أولا من خرجوا عليه آخرا انتهى. وقال ابن التين: أراد أنهم أظهروا من الشر ما لم يظهر أولئك، غير أنهم لم يصرحوا بالكفر، وإنما هو النفث يلقونه بأفواههم فكانوا يعرفون به. كذا قال، ويشهد لما قال ابن بطال ما أخرجه البزار من طريق عاصم عن أبي وائل " قلت لحذيفة: النفاق اليوم شر أم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فضرب بيده على جبهته وقال: أوه، هو اليوم ظاهر، إنهم كانوا يستخفون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". الحديث: حَدَّثَنَا خَلَّادٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ إِنَّمَا كَانَ النِّفَاقُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ الشرح: قوله (عن أبي الشعثاء) هو بفتح المعجمة وسكون المهملة بعدها مثلثة واسمه سليم ابن أسود المحاربي. قوله (عن حذيفة) لم أر لأبي الشعثاء عن حذيفة في الكتب الستة إلا هذا الحديث، ولم أره إلا معنعنا، وكأنه تسمح فيه لأنه بمعنى حديث زيد بن وهب عن حذيفة وهو المذكور قبله، أو ثبت عنده لقيه حذيفة في غير هذا. قوله (إنما كان النفاق) أي موجودا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية يحيى بن آدم عن مسعر عند الإسماعيلي " كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله (فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان) كذا للأكثر. وفي رواية " فإنما هو الكفر أو الإيمان " وكذا حكى الحميدي في جمعه أنهما روايتان، وأخرجه الإسماعيلي من طرق عن مسعر " فإنما هو اليوم الكفر بعد الإيمان " قال وزاد محمد بن بشر في روايته عن مسعر " فضحك عبد الله قال حبيب فقلت لأبي الشعثاء: مم ضحك عبد الله؟ قال: لا أدري". قلت: لعله عرف مراده فتبسم تعجبا من حفظه أو فهمه، قال ابن التين: كان المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وأما من جاء بعدهم فإنه ولد في الإسلام وعلى فطرته فمن كفر منهم فهو مرتد، ولذلك اختلفت أحكام المنافقين والمرتدين انتهى. والذي يظهر أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع وإنما أراد نفي اتفاق الحكم، لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئا فإنه يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التألف لعدم الاحتياج إلى ذلك، وقيل غرضه أن الخروج عن طاعة الإمام جاهلية ولا جاهلية في الإسلام، أو تفريق للجماعة فهو بخلاف قول الله تعالى (ولا تفرقوا) ، وكل ذلك غير مستور فهو كالكفر بعد الإيمان.
|